فصل: قال نظام الدين النيسابوري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال نظام الدين النيسابوري:

{هَلْ أَتَاكَ حديث الغاشية (1)}
التفسير:
لما انجر الكلام في السورة المتقدّمة إلى ذكر الآخرة، شرح في هذه السورة بعض أحوال المكلفين فيها. والغاشية القيامة لأنها تغشى الناس بشدائدها، وكل ما أحاط بالشيء من جميع الجهات فهو غاشٍ له قال الله تعالى: {يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم} [العنكبوت: 55] وقال: {وتغشى وجوههم النار} [إبراهيم: 50] أي لم يأتك حديث هذه الداهية وقد أتاك الآن فاستمع. وقدّم وصف الأشقياء لأن مبنى السورة على التخويف كما ينبئ عنه لفظ {الغاشية}. والمراد بالوجه الذات ووجه حسن هذا المجاز أن الخشوع والانكسار والذل وأضدادها يتبين أكثرها في الوجه كقوله: {وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفيّ} [الشورى: 45] والعمل والنصب أي التعب. قيل: كلاهما في الآخرة وهو والأظهر لقوله: {يومئذ} أي تعمل في النار عملاً تتعب فيه وهو جرها السلاسل والأغلال وخوضعها في النار خوض الدابة في الوحل وتردّدها في صعود من نار وحدور منها.
قال الحسن: كان يجب عليها أن تعمل لله في الدنيا خاشعة ناصبة فلام قصر في ذلك وقع في مثله بعد المفارقة إلى أن يشاء الله ليكون معارضاً بنقيض مقصوده.
وقيل: كلاهما في الدنيا وهم أصحاب الصوامع خشعت وجوههم لله وعملت ونصبت في أعمالها من غير نفع لهم في الآخرة، لأن أعمالهم مبنية على غير أساس من الدين الحنيفي.
وقيل: عملت في الدنيا أعمال السوء فهي في نصب منها في الآخرة. ثم شرح مكانهم وهو النار الشديدة الحر، ومشروبهم وهو من {عين آنية} أي متناهية في الحرارة، ومطعومهم وهو الضريع.
وإنما قدّم المشروب على الضريع المطعوم لأن الماء يناسب النار مناسبة الضدين أو الشبيهين من حيث بساطتهما، أو لأنهم إذا أثر فيهم حر النار غلب عليهم العطش وكان الماء عندهم أهم، ثم إذا أثرت فيهم الحرارتان أرادوا أن يدفعوا ألم الإحساس بها بما يزيد العذاب على البدن، هذا مع أن الواو ليست للترتيب.
قال الحسن: لا أدري ما الضريع ولم أسمع فيه من الصحابة شيئا وقد يروى عنه أيضًا أنه (فعيل) بمعنى (مفعل) كالأليم بمعنى المؤلم. والبديع بمعنى المبدع ومعناه إلا من طعام يحملهم على الضراعة والذل عند تناوله لما فيه من الخشونة والمرارة والحرارة.
وعن سعيد بن جبير أنه شجرة ذات شوك.
قال أبو الجوزاء: كيف يسمن من يأكل الشوك. وفي الخبر «الضريع شيء يكون في النار يشبه الشوك أمرّ من الصبر وأنتن من الجيفة وأشدّ حراً من النار».
قال العلماء: إن للنار دركات وأهلها على طبقات: فمنهم من طعامه {الزقوم}، ومنهم من طعامه {غسلين}، ومنهم من طعامه {ضريع}، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم من شرابه الصديد {لكل باب منهم جزء مقسوم} [الحجر: 44] ووجود النبت في النار ليس بيدع من قدرة الله كوجود بدن الإنسان والعقارب والحيات فيها. قوله: {لا يسمن ولا يغني من جوع} صف للطعام أو للضريع، وفيه أن طعامهم ليس من جنس طعام الإنس لكن من جنس الشوك الذي ترعاه الإبل ما دام رطباً فإذا يبس نفرت عنه لأنه سم قاتل. ويحتمل أن يراد لا طعام لهم أصلاً لأن الضريع يبيس هذا الشوك والإبل تنفر عنه كما قلنا فهو كقوله (ليس لفلان ظل إلا الشمس) يريد نفي الظل على التوكيد. وروي أن كفار قريش قالوا على سبيل التعنت حين سمعوا الآية: إن الضريع لتسمن عليه إبلنا فنزلت {لا يسمن ولا يغني من جوع} أي ليس فيه منفعة الغذاء ولا الاسمان ودفع الجوع كذبهم الله في قولهم يسمن الضريع، أو نبههم الله بعد تسليم أن ضريعهم مسمن على أن ضريع النار ليس كذلك أي كل ما في النار يجب أن يكون خالياً عن النفع. ثم أخذ في وصف السعداء فقال: {وجوه} وإنما فقد العاطف خلاف ما في سورة القيامة لأنه أراد هاهنا تفصيل ما أجمل في قوله: {هل أتاك حديث الغاشية} ومعنى ناعمة ذات نعومة أو تنعم. وقوله: {لسعيها راضية} أي رضيت بما عملت في الدنيا وأثنت عليه نحو قولها: (ما أحسن ما عملت) وذلك إذا رأت محلها ومنزلتها في الكرامة والثواب أو رضيت لجزاء سعيها حين رأت ما لا مزيد عليه. واللاغية اللغو مصدر كالعافية والباقية، ويجوز أن تكون صفة لمحذوف أي كلمة ذات لغو.
قوله: {عين جارية} قال جار الله: يريد عيوناً في غاية الكثرة كقوله: {علمت نفس} [الانفطار: 5] قال الكلبي: لا أدري جرت بماء أو غيره.
قال القفال: {عين} شراب {جارية} على وجه الأرض في غير أخدود وتجري لهم كما أرادوا.
{مرفوعة} في الرتبة أو مرتفعة عن الأرض ليرى المؤمن بجلوسه عليها جميع ما آتاه الله من الخدم والملك، فإذا جاء وليّ الله ليجلس عليها تطأطأت له، فإذا استوى عليها ارتفعت إلى حيث أراد الله. وقد وصفها ابن عباس بأن ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت.
وقيل: {مرفوعة} أي مخبوءة لهم من رفع الشيء إذا خباهـ. والأكواب الكيزان التي لا عرى لها كلما أرادوها وجدوها {موضوعة} بين أيديهم حاضرة أو {موضوعة} على حافات العيون ليشرب بها. وجوّز في الكشاف أن يراد {موضوعة} من حدّ الكبر إلى التوسط والاعتدال. والنمارق الوسائد واحدها نمرقة بضم النون.
وروى الفراء بكسرها أيضًا {مصفوفة} بعضها بجنب بعض أينما أراد أن يجلس جلس على واحدة وأسند إلى أخرى. والزرابيّ البسط العراض الفاخرة واحدها زربية بكسر الزاي، وقيل: هي الطنافس التي لها خمل رقيق. و{مبثوثة} أي مبسوطة أو مفرقة في المجلس. وحين ذكر أحوال المعاد عاد إلى الاستدلال على المبدأ فإن من عادة كتاب الله الكريم أنه يرجع إلى تذكير الأصول عوداً إلى بداية. وللمحققين في نسق الآية وفي تناسب هذه الأمور وجوه منها: قول أكثر أهل المعاني إن القرآن إنما نزل بلغة العرب فيجب أن يخاطبوا بحسب ما هو مركوز في خزانة خيالهم، ولا ريب أن جل هممهم مصروفة بشأن الإبل فمنها يأكلون ويشربون، ومن أصوافها وأوبارها ينتفعون، وعليها في متاجرهم ومسافراتهم يحملون، فحيث أراد الله سحانه أن ينصب لهم دليلاً من مصنوعاته يمكنهم أن يستدلوا به على كمال حكمة الصانع ونهاية قدرته لم يكن شيء أحضر صورة في متخيلهم من الإبل فنصبها لهم. ولا ريب أنها من أعاجيب مصنوعات الله تعالى صورة وسيرة لما ركب فيها من التحمل على دوام السير مع كثرة الأثقال، ومن البروك حتى تحمل، ثم النهوض بما حملت، ومن الصبر على العطش، وعلى العلف القليل أياماً، ثم شرب الماء الكثير إذا وجدت، ومن تذللها لصبي أو ضعيف.
قال الإمام فخر الدين الرازي: كنت مع جماعة في مفازةٍ فضللنا الطريق فقدّموا جملاً وتبعوه وكان ذلك الجمل يمشي ينعطف من تل إلى تل ومن جانب إلى جانب حتى وصل الطريق فتعجبنا من قوّة تخيله.
وعن بعض أهل الفراسة أنه حدّث عن البعير وبديع خلقه في بروكه ثم نهوضه مثقلاً وقد نشأ في بلاد لا ففكر ثم قال: يوشك أن تكون طوال الأعناق، وذلك أن طول العنق يسهل عليه النهوض. ثم إن أصحاب المواشي لاحتياجهم الشديد إلى الماء المستعقب للكلأ صار جل نظرهم إلى السماء التي منها ينزل المطر، ثم إلى الجبال التي هي أقرب إلى السماء وأسرع لوقوع المطر عليها وحفظ الثلج الذي منه مادة العيون والآبار عند إقلاع الأمطار على أنها مأمنهم ومسكنهم في الأغلب.
لنا جبل يحتله من نجيره ** منيع يرد الطرف وهو كليل

ثم إلى الأرض التي فيها ينبت العشب وعليها متقلبهم ومرعاهم، فثبت أن الآية كيف وردت منظمة حسب ما انتظم في خزانة خيال العرب بحسب الأغلب. ومنها أن جميع المخلوقات متساوية في دلالة التوحيد وذكر جميعها غير ممكن فكل طائفة منها تخص بالذكر. ورد هذا السؤال فوجب الحكم بسقوطه، ولعل في ذكر هذه الأشياء التي لا تناسب في الظاهر تنبيهاً على أن هذا الوجه من الاستدلال غير مختص بنوع دون نوع بل هو عام في الكل. ومنها أن المراد بـ: {الإبل} السحاب على طريق التشبيه والمجازفان العرب كثيراً تشبه السحاب بـ: {الإبل} في أشعارهم. ومنها أن تخصيص الإنسان بالاستدلال منه على التوحيد يستتبع القوع في الشهوة والفتنة، وكذا الفكر في البساتين النزهة والصور الحسنة فخص {الإبل} بالذكر لأن التفكير فيها متمحض لداعية الحكمة وليس للشهوة فيها نصيب، على أن إلف العرب بها أكثر كما مر، وكذا {السماء} و{الأرض} و{الجبال} دلائل الحدوث فيها ظاهرة وليس فيها نصيب للشهوة. والمراد بالنظر إلى هذه الأشياء هو النظر المؤدّي إلى الاستدلال بدليل قوله: {كيف خلقت}، {كيف رفعت}، {كيف نصبت}، {كيف سطحت} وليس في السطح دلالة على عدم كرية الأرض لأنها في النظر مسطحة وقد تكون في الحقيقة كرة إلا أنها لعظمها لا تدرك كريتها. ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتذكير الأمة بهذه الأدلة وأمثالها لأن أمره مقصور على كونه مذكراً لا منحطاً إلى كونه مسيطراً أي مسلطاً عليهم فإن أراد بالتسليط القهر أو بالإكراه بمعنى خلق الهداية فيهم فالآية ثابتة لأن ذلك لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعاً. وإن أراد القتال معهم إن لم يؤمنوا فالآية منسوخة وهذا قول كثير من المفسرين، وعلى هذا فالأظهر أن يكون الاستثناء في قوله: {إلا من تولى وكفر} متصلاً لا باعتبار الحال فإن السورة مكية ولكن بالنظر إلى الاستقبال أي إلا المصرين على الإعراض والكفر فإنك تصير مأموراً بقتالهم مستولياً عليهم بالغلبة والقهر.
وقيل: هو استثناء منقطع أي لست بمستول عليهم ولكن من تولى وكفر فإن لله لولاية والقهر فهو يعذبه العذاب الأكبر الذي هو القتل والسبي أو عذاب الدرك الأسفل.
وقيل: هو استثناء من قوله: {فذكر} أي {فذكر} إلا من انقطع طمعك من إيمانه و{تولى} فاستحق {العذاب الأكبر} وما بينهما اعتراض. ويرد أنه صلى الله عليه وسلم لا ينقطع طمعه من إيمان الكفرة ما داموا أحياء إلا أن يعلمه الله بذلك، وعلى تقدير الإعلام أيضًا لا يجوز أن يقطع التذكير لأن الدعوة عامة في الأصل ولو جعلت خاصة لم تبق مضبوطة كرخصة المسافر مثلاً.
ثم ختم السورة بما يصلح للوعد والوعيد والترغيب والترهيب. ومن قرأ {إيابهم} بالتشديد فإما أن يكون (فيعالاً) مصدر (فيعل) من الإياب، وأما أن يكون أصله (أوّاباً) فعالاً من (أوّب) ثم قلبت أحدى الواوين ياء كما في (ديوان) ثم الأخرى كما في (سيد).
قال جار الله: فائدة تقديم الظرف في الموضعين الحصر أي ليس ينبغي أن يكون مرجعهم إلا إلى الجبار المقتدر على توفية جزاء كل طائفة ولا أن يكون {حسابهم} واجباً إلا على حكمة من هو أحكم الحاكمين ورب العالمين. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

سورة الغاشية:
مكية بالإجماع.
وهي ست وعشرون آية.
واثنان وتسعون كلمة.
وثلاثمائة وإحدى وثمانون حرفاً.
{بسم الله} علام الغيوب {الرحمن} كاشف الكروب {الرحيم} الذي خص أولياءه بالعفو عن الذنوب.
وقوله سبحانه وتعالى: {هل أتاك حديث الغاشية} فيه وجهان:
أحدهما: أنّ {هل} بمعنى قد، أي: قد جاءك يا أشرف الخلق {حديث الغاشية}، كقوله تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} (الإنسان).
قال قطرب: والثاني: أنه استفهام على حاله، وتسميه أهل البيان التشويق، والمعنى: إن لم يكن أتاك حديث الغاشية فقد أتاك وهو معنى قول الكلبي، و{الغاشية}: الداهية التي تغشى الناس بشدائدها وتلبسهم أهوالها وهي القيامة من قوله: {يوم يغشاهم العذاب} (العنكبوت).
وقيل: هي النار من قوله تعالى: {وتغشى وجوههم النار} (إبراهيم).
{ومن فوقهم غواش} (الأعراف).
وقيل: المراد النفخة الثانية للبعث لأنها تغشى الخلق.
وقيل: {الغاشية} أهل النار يغشونها ويقتحمون فيها.
{وجوه}، أي: كثيرة جدًّا كائنة {يومئذ}، أي: يوم إذ غشيت {خاشعة}، أي: ذليلة من الخجل والفضيحة والخوف من العذاب، والمراد بالوجوه في الموضعين: أصحابها.
{عاملة ناصبة}، أي: ذات نصب وتعب.
قال سعيد بن جبير عن قتادة: تكبرت في الدنيا عن طاعة الله تعالى فأعملها الله تعالى وأنصبها في النار بجرّ السلاسل الثقال وحمل الأغلال، والوقوف حفاة عراة في العَرَصَات في يوم كان مقداره ألف سنة.
وقال ابن مسعود: تخوض في النار كما تخوض الإبل في الوحل.
وقال الحسن: لم تعمل لله في الدنيا ولم تنصب له فأعملها وأنصبها في جهنم.
وقال ابن عباس: هم الذين أنصبوا أنفسهم في الدنيا علي معصية الله تعالى على الكفر، مثل عبدة الأوثان والرهبان وغيرهم لا يقبل الله تعالى منهم إلا ما كان خالصاً له.
وعن علي أنهم الخوارج الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وأعمالكم مع أعمالهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» الحديث.
وقرأ {تصلى} أبو عمرو وشعبة بضم التاء الفوقية على ما لم يسم فاعله، والباقون بفتحها على تسمية الفاعل، والضمير على كلتا القراءتين للوجوه. والمعنى: تدخل {ناراً حامية}، أي: شديدة الحرّ قد أحميت وأوقدت مدّة طويلة، ومنه حمى النار بالكسر، أي: اشتدّ حرّه. وحكى الكسائي اشتدّ حمى الشمس وحموها بمعنى.
قال صلى الله عليه وسلم: «أوقد عليها ألف سنة حتى احمرّت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسوّدت فهي سوداء مظلمة».
وقيل: المصلى عند العرب أن يحفروا حفيراً فيجمعون فيه جمراً كثيراً، ثم يعمدوا إلى شاة فيدسوها وسطه، فأمّا ما شوي فوق الجمر أو على المقلى أو في التنور فلا يسمى مصلياً.
ولما بين تعالى مكانهم ذكر شرابهم فقال تعالى: {تسقى من عين آنية}، أي: شديدة الحرارة كقوله تعالى: {بين حميم آن} (الرحمن).
متناه في الحرارة. روي أنه لو وقعت منها قطرة على جبال الدنيا لأذابتها.
ولما ذكر تعالى شرابهم أتبعه بذكر طعامهم فقال تعالى: {ليس لهم طعام إلا من ضريع} قال مجاهد: هو نبت ذو شوك لاطئ بالأرض تسميه قريش الشبرق، فإذا هاج سموه الضريع، وهو أخبث طعام وأبشعه.
قال الكلبي: لا تقربه دابة إذا يبس.
وقال ابن زيد: أمّا في الدنيا فإنّ الضريع الشوك اليابس الذي ليس له ورق، وهو في الآخرة شوك من نار. وجاء في الحديث عن ابن عباس يرفعه: «الضريع شيء في النار يشبه الشوك أمرّ من الصبر وأنتن من الجيفة، وأشد حرّاً من النار» قال أبو الدرداء والحسن: إنّ الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيغاثون بالضريع ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالماء فيستسقون فيعطشهم ألف سنة، ثم يسقون من عين آنية لا هنيئة ولا مريئة، فلما أدنوه من وجوههم سلخ جلود وجوههم وشواها فإذا وصل بطونهم قطعها فذلك قوله تعالى: {وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم} (محمد).
قال بعض المفسرين: فلما نزلت هذه الآية قال المشركون: إنّ إبلنا لتسمن على الضريع، وكذبوا في ذلك فإنّ الإبل إنما ترعاه ما دام رطباً ويسمى شبرقاً فإذا يبس لا يأكله شيء.
قال أبو ذؤيب يصف حماراً:
رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوي ** وصار ضريعاً بان عنه النحائص

والنحوص: من الأتن التي لا لبن لها.
ولما قالوا ذلك أنزل الله تعالى تكذيباً لهم: {لا يسمن ولا يغني}، أي: يكفي كفاية مبتدأة {من جوع} فلا يحفظ الصحة ولا يمنع الهزال فنفى السمن والشبع عنه، وعلى تقدير أن يصدقوا فيكون المعنى: أنّ طعامكم من ضريع ليس من جنس ضريعكم إنما هو ضريع غير مسمن ولا مغن من جوع..
فإن قيل: كيف قيل: {ليس لهم طعام إلا من ضريع} وفي الحاقة: {ولا طعام إلا من غسلين} (الحاقة)؟
أجيب: بأنّ العذاب ألوان والمعذبون طبقات، فمنهم أكلة الزقوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم أكلة الضريع {لكل باب منهم جزء مقسوم}.
ولما ذكر تعالى وعيد الكفار أتبعه بشرح أحوال المؤمنين فقال تعالى: {وجوه يومئذٍ}، أي: يوم تغشى الناس ووصفها بصفات الأولى قوله تعالى: {ناعمة}، أي: ذات بهجة وحسن كقوله تعالى: {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} (المطففين). أو متنعمة.
قال مقاتل: في نعمة وكرامة.
الصفة الثانية: قوله تعالى: {لسعيها}، أي: في الدنيا بالأعمال الصالحة {راضية}، أي: في الآخرة بثواب سعيها حين رأت ما أدّاهم إليه من الكرامة الصفة الثالثة قوله تعالى: {في جنة} ثم توصف الجنة بصفات:
الأولى قوله تعالى: {عالية}، أي: علية المحل والقدر.
والصفة الثانية: قوله تعالى: {لا يسمع فيها لاغية} قرأ بالتاء الفوقية نافع مضمومة {لاغية} بالرفع.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء التحتية مضمومة {لاغية} بالرفع لقيامها مقام الفاعل، والباقون بالتاء الفوقية مفتوحة {لاغية} بالنصب فيجوز أن تكون التاء للخطاب، أي: {لا تسمع} أنت وأن تكون للتأنيث، أي: {لا تسمع} الوجوه واللغو.
وقال ابن عباس: الكذب والبهتان والكفر بالله تعالى.
وقال قتادة: لا بالله طل ولا إثم.
وقال الحسن: هو الشتم.
وقال الفراء: الحلف الكاذب، والأولى كما قيل: لا يسمع في كلامهم كلمة ذات لغو، وإنما يتكلمون بالحكمة وحمد الله تعالى على ما رزقهم من النعيم الدائم وهذا أحسن الأقوال قاله القفال.
وقال الكلبي: لا يسمع في الجنة حالف بيمين لا برّة ولا فاجرة.
الصفة الثالثة: قوله تعالى: {فيها}، أي: الجنة {عين جارية} قال الزمخشري: يريد عيوناً في غاية الكثرة كقوله تعالى: {علمت نفس} (التكوير).
وقال القفال: فيها عين شراب جارية على وجه الأرض في غير أخدود، وتجري لهم كما أرادوا.
الصفة الرابعة: قوله تعالى: {فيها سرر مرفوعة}، أي: عالية في الهواء.
قال ابن عباس: ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت مرتفعة في السماء ما لم يجيء أهلها، فإذا أرادوا أن يجلسوا عليها تواضعت ثم ترتفع على مواضعها.
الصفة الخامسة قوله تعالى: {وأكواب موضوعة} جمع كوب، وهي الكيزان التي لا عرى لها.
قال قتادة: فهي دون الإبريق.
وفي قوله تعالى: {موضوعة} وجوه:
أحدها: أنها معدّة لأهلها كالرجل يلتمس من الرجل شيئاً فيقول هو هاهنا موضوع بمعنى معدّ.
ثانيها: {موضوعة} على حافات العين الجارية كلما أرادوا الشرب وجدوها مملوءة من الشراب. ثالثها: {موضوعة} بين أيديهم لاستحسانهم إياها بسبب كونها من ذهب أو فضة أو من جواهر وتلذذهم بالشرب فيها.
رابعها: أن يكون المراد {موضوعة} عن حدّ الكبر، أي: هي أوساط بين الكبر والصغر كقوله: {قدروها تقديراً} (الإنسان).
الصفة السادسة: قوله تعالى: {ونمارق} وهي الوسائد، واحدها: نمرقة بضم النون والراء وكسرهما لغتان أشهرهما الأولى وهي وسادة صغيرة قالت:
نحن بنات طارق ** نمشي على النمارق

{مصفوفة} أي: واحدة على جنب واحدة أخرى قال الشاعر:
كهولاً وشباناً حساناً وجوههم ** لهم سرر مصفوفة ونمارق

الصفة السابعة: قوله تعالى: {وزرابيّ} وهي جمع زربية بفتح الزاي وكسرها لغتان مشهورتان وهي بسط عراض فاخرة.
وقال ابن عباس: الطنافس التي لها خمل، أي: وبر رقيق. واختلف في قوله تعالى: {مبثوثة} فقال قتادة: مبسوطة.
وقال عكرمة: بعضها فوق بعض.
وقال الفراء: كثيرة.
وقال القتيبي: مفرّقة في المجالس.
قال القرطبي: وهذا أصح فهي كثيرة متفرّقة ومنه قوله تعالى: {وبث فيها من كل دابة} (البقرة).
ولما ذكر تعالى أمر الدارين تعجب الكفار من ذلك فكذبوه وأنكروه فذكرهم الله تعالى صنعه وقدرته بقوله تعالى: {أفلا ينظرون}، أي: المنكرون لقدرته سبحانه وتعالى على الجنة، وما ذكر فيها، والنار وما ذكر فيها، أي: نظر اعتبار.
{إلى الإبل} ونبه على أنه عجيب خلقها مما ينبغي أن تتوفر الدعاوي على الاستفهام والسؤال عنه بأداة الاستفهام، فقال تعالى: {كيف خلقت}، أي: خلقاً عجيباً دالاً على كمال قدرته وحسن تدبيره، حيث خلقها للنهوض بالأثقال وجرّها إلى البلاد النائية فجعلها تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر، ثم تنهض بما حملت وسخرها منقادة لكل من اقتادها بأزمتها لا تعارض ضعيفاً ولا تنازع صغيراً وبرأها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار.
وعن بعض الحكماء أنه حدّث عن البعير وبديع خلقه وقد نشأ في بلاد لا إبل بها فتفكر، ثم قال: يوشك أن تكون طوال الأعناق وحين أراد بها أن تكون سفائن البرّ صبرها على احتمال العطش، حتى إنّ ظماءها لتصبر على عشر فصاعداً ليتأتى لها قطع البراري والمفاوز مع ما لها من منافع أخر، ولذلك خصت بالذكر لبيان الآيات المثبتة في الحيوانات التي هي أشرف المركبات وأكثرها صنعاً، ولأنها أعجب ما عند العرب من هذا النوع لأنها ترعى كل شيء نابت في البراري والمفاوز مما لا ترعاه سائر البهائم.
وعن سعيد بن جبير قال: لقيت شريحاً القاضي فقلت له: أين تريد؟ قال: أريد الكناسة، قلت: وما تصنع بها؟ قال: أنظر إلى الإبل كيف خلقت.
تنبيه:
الإبل اسم جمع واحده بعير وناقة وجمل ولا واحد لها من لفظها.
وقال المبرد: الإبل هنا القطع العظيمة من السحاب.
قال الثعلبي: ولم أجد لذلك أصلاً في كتب الأئمة.
وقال الماوردي: وفي الإبل وجهان: أظهرهما: أنها الإبل، والثاني: أنها السحاب فإن كان المراد بها السحاب فلما فيها من الآيات والدلالات الدالة على قدرته والمنافع العامّة لجميع خلقه، وإن كان المراد بها الإبل فلأنّ الإبل أجمع للمنافع من سائر الحيوانات لأنّ ضروب الحيوان أربعة حلوبة وركوبة وأكولة وحمولة والإبل تجمع هذه الخلال الأربع، فكانت النعمة بها أعم وظهور القدرة فيها أتم وقيل للحسن: الفيل أعظم من الأعجوبة فقال العرب: بعيدة العهد بالفيل ثم هو لا يؤكل لحمه ولا يركب ولا يحلب درّه.
{وإلى السماء} التي هي من جملة مخلوقاتنا {كيف رفعت}، أي: رفعاً بعيداً بلا إمساك وبغير عمد على ما لها من السعة والكبر والثقل والإحكام، وما فيها من الكواكب والغرائب والعجائب.
{وإلى الجبال}، أي: الشامخة وهي أشد الأرض {كيف نصبت} نصباً ثابتاً فهي راسية لا تميل ولا تزول كما قال تعالى: {وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم} (الأنبياء).
{وإلى الأرض}، أي: على سعتها {كيف سطحت} سطحاً بتمهيد وتوطئة فهي مهاد للتقلب عليها. واستدلّ بعضهم بذلك على أنّ الأرض ليست بكرة.
قال الرزاي: وهو ضعيف لأنّ الكرة إذا كانت في غاية العظمة تكون كل قطعة منها كالسطح..
فإن قيل: كيف حسن ذكر {الإبل} مع {السماء} و{الجبال} و{الأرض} ولا مناسبة؟
أجيب: بأنّ من فسرها بالسحاب فالمناسبة ظاهرة، وذلك على طريق التشبيه والمجاز، ومن فسرها بالإبل فالمناسبة بينها وبين {السماء} و{الأرض} و{الجبال} من وجهين:
أحدهما: أنّ القرآن نزل على العرب وكانوا يسافرون كثيراً ويسيرون عليها في أوديتهم وبواديهم مستوحشين ومنفردين عن الناس، والإنسان إذا انفرد أقبل على التفكر في الأشياء لأنه ليس معه من يحادثه وليس هناك ما يشغل به سمعه وبصره، فلابد من أن يجعل دأبه التفكر فإذا تفكر في تلك الحال فأوّل ما يقع بصره على البعير الذي هو راكبه فيرى منظراً عجيباً، وإن نظر إلى فوق لم ير غير السماء وإن نظر يميناً وشمالاً لم ير غير الجبال، وإن نظر إلى تحت لم ير غير الأرض فكأنه تعالى أمره بالنظر وقت الخلوة والانفراد حتى لا تحمله داعية الكبر والحسد على ترك النظر.
ثانيهما: أنّ جميع المخلوقات دالة على الصانع جلت قدرته إلا أنها قسمان منها ما للشهوة فيه حظ كالوجه الحسن والبساتين النزهة والذهب والفضة، فهذه مع دلالتها على الصانع قد يمنع استسحانها عن كمال النظر فيها ومنها ما لا حظ فيه للشهوة كهذه الأشياء فأمر بالنظر فيها؛ إذ لا مانع من إكمال النظر فيها.
وقال عطاء عن ابن عباس: كأن الله تعالى يقول هل يقدر أحد أن يخلق مثل الإبل، أو يرفع مثل السماء، أو ينصب مثل الجبال، أو يسطح مثل الأرض غيري.
ولما بين تعالى الدلائل على صحة التوحيد والمعاد قال سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم {فذكر}، أي: بنعم الله تعالى ودلائل توحيده وعظهم بذلك وخوّفهم يا أشرف الخلق {إنما أنت مذكر} فلا عليك أن لا ينظروا ولم يذكروا أو ما عليك إلا البلاغ كما قال تعالى: {إن عليك إلا البلاغ} (الشورى).
{لست عليهم بمسيطر}، أي: بمسلط فتقتلهم وتكرههم على الإيمان كقوله تعالى: {وما أنت عليهم بجبار} (ق).
وهذا قبل الأمر بالجهاد.
وقرأ هشام بالسين وقرأ حمزة بخلاف عن خلف بإشمام الصاد كالزاي، والباقون بالصاد الخالصة.
وقوله تعالى: {إلا من تولى} استثناء منقطع، أي: لكن من تولى عن الإيمان {وكفر}، أي: بالقرآن.
{فيعذبه الله}، أي: الذي له الكمال كله بسبب تكبره عن الحق ومخالفته لأمرك {العذاب الأكبر}، أي: عذاب الآخرة لأنهم عذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والقتل والأسر.
وقيل: استثناء متصل فإنّ جهاد الكفار وقتلهم تسليط فكأنه أوعدهم بالجهاد في الدنيا وعذاب النار في الآخرة وقيل: هو استثناء من قوله تعالى: {فذكر} إلا من انقطع طمعك من إيمانه، وتولى فاستحق العذاب الأكبر وما بينهما اعتراض.
{إن إلينا}، أي: خاصة بما لنا من العظمة {إيابهم}، أي: رجوعهم بعد البعث.
{ثم إنّ علينا}، أي: خاصة بما لنا من القدرة والتنزه عن نقص العيب والجور وكل نقص لا على غيرنا {حسابهم}، أي: جزاءهم فلا نتركه أبداً، وفي هذا تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم فإنه كان يشق عليه تكذيبهم.
فإن قيل: ما معنى تقديم الظرف؟
أجيب: بأنّ معناه التشديد في الوعيد، وإنّ {إيابهم} إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام، وإنّ {حسابهم} ليس إلا عليه وهو الذي يحاسب على النقير والقطمير.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ الغاشية حاسبه الله حساباً يسيراً» حديث موضوع. اهـ.